إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

يا معشر الكتَّاب: – (ويليام فوكنر) .. يتحدث إليكم! (١-٢)

تمهيد:

(وليام فوكنر) واحد من أشهر كتاب أمريكا ولد عام 1897م، وكانت كتبه بمغازيها العميقة، ودلالاتها النفسية، وتوظيفها للأساطير التقليدية، وأساطير أخرى من صنع الكاتب نفسه، بجانب لغتها وتراكيبها المعقدة قد تجوهلت من قبل عامة القراء، وكثير من النقاد لسنوات عدة.  ولكن الحال قد تغير فيما بعد. وبحلول عام 1945م نفدت كل رواياته البالغة عشرون رواية من الأسواق، ومن جميع المطابع ودور النشر بعد أن قام نُقَّادٌ فَطنونَ بإعادة قراءة وتقييم أعماله ومنهم (مالكولم كاولي) و(روبرت بن وارن) وغيرهم ممن أبدوا للعامة ما تختزنه إبداعات (فوكنر) من ثراء وإبداع، وتُوِّجَ ذلك بحصوله على عدة جوائز من أهمها بالتأكيد جائزة (نوبل) عام 1950م. ومن أشهر رواياته (الصخب والعنف) و (الحرام) و (نور في أغسطس) و(سارتوريس).

الصراع بين الشمال الأمريكي والجنوب كان محور كتاباته، والهمّ الإنساني العام كان القاسم المشترك لها.

خطبته عند استلامه جائزة نوبل عام1950م؛ -التي هي موضوع (اشتياري) لكم هذا الأسبوع-، تزامنت مع بدء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وروسيا، حيث كان الجانبان يصنعان وينتجان المزيد والمزيد من الأسلحة الذرية الفتاكة. فروسيا حينها قد شرعت في بناء منظومة صواريخ ضخمة بعيدة المدى لإيصال الرؤوس الحربية النووية إلى أي مكان في أمريكا. وفي المقابل كان لدى الولايات المتحدة صواريخها  القصيرة المدى، والموجهة إلى روسيا من عدة قواعد لها في أوروبا وأماكن أخرى، بالإضافة لامتلاكها طائرات قصف تقع على مسافة قريبة من المدن والأهداف العسكرية السوفيتية.

وكان من السهل وقتها لأي شخص مطلع ومتابع في العالم أن يدرك أن القوتين العظميين في طريقهما لامتلاك ما يكفي من القنابل لتفجير العالم بأسره، والقضاء على الجنس البشري بالكلية؛ ليس مرة واحدة فقط بل مئات المرات!

ومن الطبيعي أن يُلقي وضعًا كهذا بظلاله على كلمة (فوكنر) في محفل علمي مهم، وفي مناسبة استثنائية كتلك.

ومن المفارقات اللافتة أن خطبته/ كلمته الشهيرة في حفل استلامه الجائزة الأهم في العالم، لم تدرك بلاغتها، وعمق محتواها، ولم تنل حقها من الأهمية إلا بعد نشرها صبيحة اليوم التالي في الصحف؛ فقد ألقاها ولاقط الصوت بعيد نسبيًّا عن فمه، بالإضافة إلى أن لهجته الجنوبية السريعة ساهمت في عدم تمكن الحضور من سماع الكلمة كما ينبغي، وكأن الخطبة امتداد وانعكاس لإبداعه الذي لم يُفهَم ويُقدَّر ويُستوعب إلا بعد زمن من إنتاجه.  

وفيما يلي ترجمتي إلى العربية لتلك الخطبة البليغة التي يوجهها (فوكنر) إلى الكُتَّاب لا سيما المبتدئين منهم، ويبثهم بعض نصحه وتوجيهه ورؤاه تجاه الإبداع الحقيقي.

وفي الأسبوع القادم -بإذن الله تعالى- أقدم لكم أعزائي القراء ترجمةً لقراءة تأويلية تفسيرية لها من قبل الناقدة الأدبية (شاهين خان)؛ تُفَصِّلُ فيها ما أوجزه (فوكنر) في خطبته البليغة تلك:

الخطبة:

(أعتقد أن هذه الجائزة لم تمنح لشخصي بل منحت لعملي عمل الحياة المتمثل في الغوص في عذابات وآلام وشقاء الروح الإنسانية. لم يكن عملي هذا في يوم ما من أجل البحث عن الشهرة والمجد ونحوهما من المنافع الزهيدة، بل كان من أجل إبداع شيء مختلف ومميز من مادة الروح الإنسانية؛ شيئًا لم يكن موجودًا من ذي قبل. ولهذا فإنني أستحق هذه الجائزة بكل جدارة، ولن أعدم حيلة لتكريس الجانب المادي منها لما يتناسب وغرضها الأساسي. ونفس الشيء سوف أعمله الآن منتهزًا لحظة التتويج هذه وأنا على منبر أُسمَعُ فيه من قبل شبان وفتيات نذروا أنفسهم للكتابة، وكرسوا لغايتهم تلك كل هذا العذاب والكدح، والشقاء والألم المبرح مثلما فعلت، ومن يدري، فلعل من بينهم من يقف ذات يوم في هذا المكان الذي أقف فيه الآن؟

إن مأساتنا اليوم تكمن في هذا الخوف الجسدي العام، والكوني الذي ظلت الإنسانية تعاني منه لدهور عدة، ولم تعد تطيق عليه صبرًا. لم يعد لقضايا الروح متسع، كل كاتب مشغول بسؤال واحد فقط ألا وهو، متى سأنفجر؟ ولهذا نجد أن كتابات الشباب اليوم نسيت مشاكل القلب الإنساني مع نفسه، وهو الأمر الوحيد الكفيل بإيجاد إبداع أدبي حقيقي، نعم فذلك هو ما يستحق الكتابة عنه، ويستحق أيضًا الألم والعذاب في سبيله.

على الأديب الشاب أن يعلم ويتعلم هذا جيدًا. لا بد أن يدرس نفسه على أن أساس كل شيء أن تكون خائفًا، ولكن عليه أيضًا أن يعلم نفسه أن ينسى ويتناسى ذلك الخوف للأبد، وألا يدع في ورشة عمله أي شيء عدا حقائق القلب الإنساني، تلك الحقائق الأزلية التي لا تكون فيها كل قصة إنسانية مجرد حكاية عابرة، محكوم على الحب فيها بالموت عليه أن يكتب عن الحب الحقيقي، والشرف، والشفقة، والفخر، والعاطفة، والتضحيات الحقة. وما لم يفعل الكاتب ذلك، فإن اللعنة سوف تحل به، وتلقي بظلالها على نتاجه. كيف لا؟ وهو لا يكتب عن الحب كعاطفة نبيلة، ولكن يكتب عن الشبق الجنسي. إنه يكتب عن الهزائم التي لن يخسر فيها أحد شيئا ذي بال، إنه في هذه الحالة يكتب عن انتصارات من غير أمل، كما أنه يكتب دون شفقة أو عاطفة، أحزان القلب الإنساني ومآسيه التي تتواصل إلى يوم القيامة، لا تترك لها أي ندوب على كتاباته، وذلك لأنه لا يكتب عن القلب بل عن القلادة التي تحيط بالصدر؛ ذلك الصدر الذي يكمن القلب في حناياه.

إن الكاتب كي يستعيد تعلم هذه الأشياء، فإنه سوف يكتب وكأنه يقف ويشهد نهاية الإنسان، إنني أرفض قبول فكرة نهاية الإنسان. من السهل جدًّا القول إن الإنسان خالد، وذلك ببساطة لأنه لديه القدرة على الاحتمال، كما أن صوته سيبقى حتى آخر يوم في هذه الدنيا، بخلاف أصوات غيره من المخلوقات. نعم إنني أرفض قبول تلك الفكرة، وأعتقد أن الإنسان سوف لن يتحمل فحسب، بل سوف يسود، إنه خالد، ليس فقط لمجرد أنه الوحيد بين المخلوقات الذي له صوت لا ينفد، بل أيضًا لأن لديه روح مؤهلة للشفقة والتضحية، والثبات، والتحمل، والجلد.

إن الرسالة الملقاة على عاتق الكاتب هي أن يكتب عن هذه الأشياء، كما أن امتياز أي كاتب وبراعته يكمنان في مساعدته للإنسان على التحمل، وزيادة ورفع مقاييس الصبر لديه، وذلك عبر تذكيره دومًا بالشجاعة، والشرف، والمجد، … وغيرها من القيم الحقيقية.

إنه امتياز المبدع وشرفه، أن يساعد الناس بإعادتهم لإيمانهم وثقتهم في الجنس البشري. إنه واجب الكاتب أن يُعلِّم الناس الشجاعة والشرف، الأمل والكبرياء، الشفقة والرحمة والتضحية، وهذا كله مارسه كثير من الكُتَّاب في الماضي، والآن فقط هي مهمة الكاتب المبتدئ، أن يُعلِّم الناس ما قد نسوه، لذا عليه أن يعي هذه الأشياء ويُعلِّمُها.

إن صوت الشاعر لا ينبغي أن يكون مجرد سجل للإنسان فحسب، بل يجب أن يكون واحدًا من الركائز والدعائم التي تساعده على التحمل والتسيد).  

☘️??☘️??☘️??☘️??☘️??

بقلم الأديب العربي/ خلف بن سرحان القرشي

#خلف_سرحان _القرشي 

السعودية – الطائف – ص. ب 2503  الرمز البريدي 21944

qkhalaf@hotmail.com

تويتر @qkhalaf

 

مقالات ذات صلة

‫35 تعليقات

  1. حين تصافحنا اشتيار محملة بعناقيد من الأزهار التي تتقاطر عسلا .. ونقرأ من خلالها جانب من الثقافات المتنوعة فحينًا نكون مع القرآن الكريم وحينًا نكون مع الحدث وحين أخر مع السير والتراجم وتزويدنا بكم وكيف من المعلومات … فنستفيد ونفيد من حولنا حبن نتحدث عن ماجاء في الاشتيار .
    واليوم اقف رافعة قبعتي إعجابًا ومعها عقيرتي تعبيرًا عن هذه الخطبة من هذا الأديب الجنوبي وليسمح لي الاستاذ خلف بتناول مدلولات الخطبة وفق ماأراه من خبرة قليلة في هذا الشأن متمحورة حول ثلاثة محاور أساسية:
    المحور الأول: تعليقه على مقومات منح الجائزة له وانطباعاته حول ذلك كأديب وانتهاز الفرصة لتوجيه الكتاب الجدد .

    المحور الثاني: تناوله لموجبات المواضيع التي يطرقها الشباب من التأمل الذاتي ومن ذلك فتح مجال من قبلهم للخوص في الدراسة لقضايا الروح .

    المحور الثالث: ماينبغي أن تكون عليه كتابات الأديب وما لا ينبغي عليه إغفاله
    وكأني به هنا قدم أيقونة للكتاب المبتدئين والمخضرمين لكيف يصلوا للإبداع ..
    وكون الخطبة تحمل كل هذه الأسس للكّتاب ومن (الركائز والدعائم التي تساعده على التحمل والتسيد)

    فإن العهدة على الراوي -كما يقولون- وهي عهده تستلزم كما قلت سابقًا التصفيق والإشادة- ورفع القبعة- للراوي القرشي الذي ترجم و وثق هذه الخطبة وقدمها للقراء ولكل من يمتلك قلمًا و زاوية في هتون أو غيرها ليمتثل ماقاله (فوكنر ) .
    وهذا الراوي المتميز قام بـالمساهمة أيضًا في صناعة أيقونة ( فوكنر) موجهة للعرب.
    ( فيما يلي ترجمتي إلى العربية لتلك الخطبة البليغة التي يوجهها (فوكنر) إلى الكُتَّاب لا سيما المبتدئين منهم، ويبثهم بعض نصحه وتوجيهه ورؤاه تجاه الإبداع الحقيقي.)
    وقليل من الباحثين يسعون لترجمة مقولات مطولة أو خطب فالجميع ينحو نحو ترجمة لطائف الأدب الأجنبي من شعر وقصص وروايات……..الخ
    فسلمت قريحتكم وثقافتكم استاذنا وزادكم الله علمًا وسلمت أناملكم الغراء وحفظ الله يراعكم لهتون … ودمتم بكل خير .

  2. إن صوت الشاعر لا ينبغي أن يكون مجرد سجل للإنسان فحسب، بل يجب أن يكون واحدًا من الركائز والدعائم التي تساعده على التحمل والتسيد..سلمت مبدعنا الكبير وحياكم الله جميعا

  3. تزجي صحيفة هتون للأديب والكاتب المنتظم الأستاذ خلف القرشي أسمى آيات الشكر ووافر التقدير وجزيل الإمتنان على ماقدمه ويقدمه من دعم للصحيفة دون هوادة أو كلل وملل سواء فيما يطرقه من موضوعات في زاويته المميزة او انتظامه في صدور مقالاته في نفس زمنها المقرر أو استقطابه لكّتاب للزوايا … أو امتاعه للقراء بما يقدم وما نقف عليه من تصاعد الأعداد في الدخول للصحيفة وقراءة زاويته ..
    أجزل الله لكم استاذنا المثوبة وجعلكم الله ذخرًا لثقافة هذه الأمة..

  4. شكراً على مجهوداتك استاذ خلف ولاني كاتبة مبتدئة في هتون فاني ادين لك بجميل ومعروف ترجمة خطبة الكاتب ويليام فوكنر وان نستفيد منها .

  5. صدق ربنا “ليسو سواءً”
    فمنهم مشرق الوجدان .. باحث عن القيم .. منحاز للإنسان
    وهكذا كاتبك
    ليتنا أهل الترجمة مثلكم يميطون اللثام عن كنوز مخبوءة كتلك
    موفق أنت كاتبًا ومترجما .. فاهمًا ومفهِّما.

  6. اشكالية اذا الواحد وده يكتب ويتعلم ومالقى من يساعده على تحسين كتابته وتصليح موهبته وبقى متردد مايدري وش يسوي
    ابي احد يساعدني يصير لي لسانين واحد للناس واحد للمثقفون وقلم اكتب به للعمل وقلم لكتابة الشعر والقصة

  7. ” و أن أساس كل شيء أن تكون خائفًا، ولكن عليه أيضًا أن يعلم نفسه أن ينسى ويتناسى ذلك الخوف للأبد، ”

    حكمة… تتجلى لكل من يخوض غمار الحياة طالبا شرف المكانة بعلو الهمة وعون الله تعالى، وأنها لاتخلو من المشقة الممزوج بالخوف والقلق
    لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق ع مشارفه الدم

  8. مقال رائع من استاذي ومعلمي الأستاذ خلف سرحان القرشي
    مزيد من التقدم والازدهار والنجاح نتمناه لكم

  9. اقول للاخت ام لسانين وقلمين اذا تبين تصيري كاتبه عليك بالقراءة الكثيرة للكتابين المشهورين والجيدين وبالمقال قال الكاتب الطريقه
    والله الموفق

  10. جميل جدا

    إنه امتياز المبدع وشرفه، أن يساعد الناس بإعادتهم لإيمانهم وثقتهم في الجنس البشري

  11. وقليل من الباحثين يسعون لترجمة مقولات مطولة أو خطب فالجميع ينحو نحو ترجمة لطائف الأدب الأجنبي من شعر وقصص وروايات……

  12. شكرا جزيلا لكم معشر القراء الأفاضل على تعليقاتكم الثرية والمحفزة، و المشيدة بنتاجي المتواضع والذي ترفعه كلماتكم النبيلة ودعواتكم الطيبة إلى الأجمل والأفضل والأعمق.
    كم هو مبهج لأي كاتب أن يحظى بقراء على مستوى من الوعي والثقافة أمثالكم؛ قراء لا يكتفون بالقراءة العابرة، ولا يمرون على المقال مرور المستعجل رغم قلة الوقت، وكثرة المعروض للقراءة هنا وهناك.
    ولكنهم – وأعني قرائي الأعزاء – كوكبة مضيئة من القراء يتوقفون للتعليق نقدا بناء، وتوجيها سديدا، وتشجيعا جميلا وتحفيزا متواصلا لكتَّابهم.
    وبهذا بعد الله يزداد الكاتب ثراء، ووعيا وإدراكا ويقينا بمسؤوليته تجاه الكلمة والقارئ.
    وشكرا كذلك لصحيفة هتون الإلكترونية إدارة وتحريرا على اهتمامهم المقدر دوما.
    دمتم جميعا ألقا وضوءا وعطاء وتحفيزا.

  13. كان لي الشرف أن أتجرع إشتيار الأستاذ خلف القرشي عدد ست سنين حين كان معلمي للغة الإنجليزية للمرحلتين المتوسطة والثانوية.
    عطاؤه لا ينضب ومداد حبره ينافس مداد كرم أخلاقه وحلمه

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88