إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

التواصل الإنساني والافتراضي

فى هذا العصر، عصر التطور التكنولوجي، عصر الانفتاح، عصر الإنترنت والسماوات المفتوحة، العصر الذي أصبح فيه كل شيء متاح وسهل الوصول اليه، من معلومات وأخبار عن طريق الكلمة المكتوبة، أو بالصوت والصورة والتواصل بين البشر من كل بلدان العالم.

كل تلك المميزات التى تميز بها عصرنا الحالي كان من المفترض أن تساعد الإنسان في عيش حياة سعيدة، يتمتع فيها بحالة اتزان نفسي، وعصبي، وبدني، وعلاقات اجتماعية سوية، لكن ما حدث عكس ذلك تمامًا، فلقد أصبحنا مشتتين الفكر، حيارى بين الواقع والخيال، بين الممارسة الحياتية الفعلية، والحياة الإلكترونية، بين حياة نعيشها، وحياة نتمناها ونلهث وراءها، أصبحنا وكأننا شخصين نقيضين مختلفين فى كل شيء، أحدهما ظاهر واضح للجميع يتعامل مع واقعه الذي فُرض عليه، والآخر مدفون مسجون أسير داخل سراديب النفس يغزل أحلامًا وردية لحياته التى كان يتمناها في الخيال.

ولأننا فى مجتمعات مغلقة، أغلبها لا يتقبل التغيير أو التجديد، ولا التعبير عن الآراء الشخصية بحرية، أو المجاهرة بما يخالف العادات والتقاليد، ولا يعترف بالحقائق، ولا بالأخطاء، ولا يعلم شيئًا عن التسامح والغفران، مجتمعات يغلبها الزيف، والكذب، والنفاق، فنتاج كل ذلك مجموعة من البشر عبارة عن خليط من المشاعر المتضاربة يعيشون حياتهم بين الرضا والرفض، يتأرجحون بين الحق والباطل، صفاتهم متداخلة معقدة ما بين القبح والجمال، الحب والكره، الخوف والأمان، لذا كانت مواقع التواصل الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية هي المتنفس الوحيد الذي أتاح للمارد المسجون بداخلنا، الخروج ليقول أنا هنا بكل عيوبي ونواقصي، أنا هنا لمن يريد أن يقترب مني كما أنا دون أن يحاول الوقوف على أخطائي وإغراقى بسيول من اللوم والنصائح، أنا هنا من أرادني فليقبلني كما أنا، ومن لا يريدني يبتعد وكأنه لم يراني.

لقد استولت مواقع التواصل الاجتماعي على عقولنا وأوقاتنا، وأفسدت علاقاتنا الأسرية والاجتماعية، ولمَ لا والعلاقات الإنسانية على تلك المواقع من أسهل مايكون، بلا تعقيدات، بلا تمهيدات، بلا عناوين، بلا مؤهلات، بلا مواجهة، فقط اسم، وصورة، وكلمات، وتغريدات مقتضبة موجزة، تعقبها تعليقات، وإعجابات، ونكزات، ثم رسالة تعقبها رسائل، ويبدأ الحوار الخاص  وتنسج خيوط الحكايات.

في هذا الحوار يتم الخروج عن كل المألوف، والاعتراف بكل سهولة عن الرغبات المكبوتة، والاحتياجات النفسية والبدنية، والاعتراف بالنواقص والسقطات، والبوح بالمغامرات الشاذة أخلاقيًّا. فلا مجال هنا للخجل أو التردد، أو أى اعتبارات أخرى، فهي مجرد كلمات يعقبها عرض وطلب، إن لقيَ القبول سيستمر الحوار، وإذا تم رفضه فالأمر أسهل مما يمكن، فقط بلوك أو حظر لهذا الشخص وينتهى الأمر برمته، ثم يبدأ البحث عن غيره.

كذلك قد تتيح لنا مواقع التواصل فرصة التعبير عن النفس بمساحة واسعة من الحرية وعرض الآراء، حتى لو كانت غير مقبولة مجتمعيًّا أو أخلاقيًّا أو سياسيًّا، أما في الواقع، فمساحة الحرية في التعبير تكاد تكون معدومة، هذا غير اللجوء إلى بعض الكذب، والنفاق، والكثير من التجمل.

السؤال هنا .. لماذا لا نكون بمثل هذا الوضوح في الواقع؟ ومم نخاف؟
الحقيقة ان هناك اعتبارات كثيرة قد تقف حائلّا بيننا وبين هذا الوضوح، يأتي في مقدمتها الخوف من رد فعل المحيطين بنا، بالإضافة إلى الوجاهة الاجتماعية، والكبرياء الذى يحتم علينا إبراز صورتنا الإيجابية، وإخفاء العيوب نهائيًّا عن أعين الناس، لدرجة أننا قد نتناسى أننا بشر، مثلما يوجد لدينا إيجابيات فهناك أيضًاا سلبيات، لا بد أن نعترف بها، وبجانب الصفات الحميدة سنجد حتمًا صفاتًا بذيئة.

ورغم كل ذلك فنحن فى النهاية لا بد أن نعترف أن التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي الإلكترونية لا تعدُ عن كونها وسائط افتراضية للتواصل، قد تحمل بعض الخير، وقد تحمل كثيرًا من الشرور مثلها مثل أي وسيلة تواصل، لكنها لا تغني بحال من الأحوال عن التواصل الإنساني المباشر، الذي يحمل عاطفة اللقاء وحرارته وحميميته، التي تنقل الحب والمودة، التي نشأت عليها البشرية مثل بدء الخليقة.

فدعونا نهذب الجانب السيء فينا لنجعله حميدًا، ودعونا نتصالح مع أنفسنا، حتى نتصالح مع الآخرين على أرض الواقع.

☘️??☘️??☘️??☘️??☘️??☘️??

الكاتبة والأديبة/ جيهان السنباطي 

مقالات ذات صلة

‫35 تعليقات

  1. ” فدعونا نهذب الجانب السيء فينا لنجعله حميدًا، ودعونا نتصالح مع أنفسنا، حتى نتصالح مع الآخرين على أرض الواقع.”

    مقال رائع فيه كثير من الوقائع الحياتية في وقتنا الحاضر
    سلم البنان والقلم الكاتبة جيهان

  2. مقال ضاف وجميل ويتناول قضية هامة بوعي ولغة فاتنة. كل الشكر للأستاذة جيهان.

  3. موضوع أثيرت فيه دراسات عدة، لكنها كلها فشلت في تحديد الرابط الحقيقي الذي يربط الإنسان بالواقع الافتراضي، حتى مساحة الحرية أصبحت مقيدة على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب نقل نفس المحيط الاجتماعي الواقعي إلى الواقع الافتراضي.

  4. أصبحت هناك اعتبارات أخرى كثيرة غير التصريح بالعديد من المحظورات كالهروب من الواقع، وممارسة الانعزال الاجتماعي الذي لا يوفره الواقع بشخوصه المختلفين.

  5. لماذا لا نكون بمثل هذا الوضوح في الواقع؟ ومم نخاف؟
    خوفنا من المواجهات من أي نوع يمنعنا من أنكون بمثل الوضوح والصراحة اللتين نظهرهما في الواقع الافتراضي.

  6. مقال جميل..نحن في اشد الحوجة لمثل هذه المواضيع..لأننا نعاني من سوء استخدام وسائل التواصل الاجتماعي

  7. في الماضي القريب كانت تعتبر هذا من الخيال والاسطورة ولكن صار اليوم حقيقة ..فسبحان الله

  8. السوشيال الميديا هي وسيلة تواصل لابد من استخدامها بطريقة تنفع البشرية ولا تسئ اليها

  9. نعم هي سلاح ذو حدين لابد من الاستفادة منها في نشر القيم والاخلاق وصلة الرحم والصلات الانسانية

  10. (أصبحت هناك اعتبارات أخرى كثيرة غير التصريح بالعديد من المحظورات كالهروب من الواقع، وممارسة الانعزال الاجتماعي الذي لا يوفره الواقع بشخوصه المختلفين.)

    اوافقك اخي صالح يوسف

  11. تتقدم إدارة هتون للكاتبة الاستاذة جيهان السنباطي بأسمى آيات الشكر والتقدير وخالص الامتنان .. وتشيد بإسلوبها في الطرح واختيارها للمواضيع التي تشد القراء وتحفزهم للتناول والتداول ..
    حفظكم الله جميعًا .

  12. التصالح مع النفس هي سُنةٌ الهية جعَلها الله في الحياة فيستطيع الانسان تغيير حياته ، عبر تغيير النفس، ومُراقبة الذات قال الله تعالى قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾

  13. تحياتي لكم والى الكاتبه
    وسائل التواصل الاجتماعي بجميع أنواعه لم يعطى الصوره الجيده في استخدامها وتعليم الجيل ماهيه الصواب والخطأ اضافه الى ضعف الرقابه الاسريه
    جميل الانفتاح والتعلم والتطور الفكري والحضاري لكن نحن نتعامل مع جيل قديم يعاصر الانفتاح وجيل اخر يريد السرعه في كل شي ودورنا هنا التوجيه والتبصير ودورات تدريبه في نعامل الأسر مع ابنائها

  14. مقال جميل جدا شخص الداء واقترح الدواء كنت أتمنى وأنا اقرأ عنوان المقال ان الكاتبة تعطيني الطرائق والأساليب التي تجعلني اتفلب غلى سطوة التقنية والتواصل الافتراضي ، لكني لم أجد فقط مجرد دعود للتواصل الواقعي ، كما لا اتفق مع الكاتبة بأن مجتمعنا فيه زيف ونفاق بصفة عامة ولكن ربما ليس ثمة قدرة على الوضوح والمكاشفة والشفافية مثل العالم الواقعي لأنه لا قيود ولا عتب ولا لوم سوى القيود التي يلتزم بها الشخص نفسه في العالمين ويحترمها ويقف غندها

  15. لقد شدني التعمق الفكري والاداء الروحاني التي اتسم به هذا المقال، والجودة بالافكار الصريحة، ومخاوف هذه الحياة، التي تسحبنا الي المجهول، فلقد اصبح التاريخ يشبه بعضه، وتتنحي امور الحياة وتنجرف نحو الهاوية، فسلمت الأنامل لكون هذا المقال نُسج بعقلانية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88