إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

رؤيا سيدنا يوسف، والـــ (سناب شات)!

قرائي الكرام/
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. وطابت أوقاتكم بالخير والعافية والتوفيق.

اشتياري اليوم لكم نوعًا نفيسًا من أنواع الاشتيار، فهو من وحي كتاب الله عز وجل، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، من وحي سورة يوسف تحديدًا، تلكم السورة الأثيرة عند المسلمين، وكل القرآن عظيم وأثير، وتتجلى عظمته الأكثر، وتأثيره الأعمق متى ما تمَّ اتباعه، وتدبُّر مبانيه، وتمعُّن معانيه، وتفعيل توجيهاته في حياة الإنسان، وحراك المجتمع.

وأحسب أن من يتأمل بعمق بعضَ ومضاتٍ، وقليلَ إشاراتٍ في سورة يوسف يدرك فداحة خطأ كثير من الناس، وسوء استخدامهم لتطبيق الـــ (سناب شات) الشهير الذي شغل الدنيا، وملأ الناس، وما زال يملؤها ويشغلهم، وأدمن عليه جمٌّ غفير من البشر في مشارق الأرض ومغاربها، مما اضطر بعضهم لمراجعة مصحات تخصصية، وعيادات نفسية طلبًا للعلاج، ونشدانا للتعافي من ذلك الإدمان. ولا يعني هذا بحال من الأحوال أن الــ (سناب شات) شر محض، بل فيه منافع للناس متى ما أحسنوا الإفادة منه.

لنرى – رويدًا رويدًا- كيف تكون العلاقة بين شيء مما في سورة يوسف، وبين الـــ (سناب شات)؟

في مطلع سورة يوسف، نجد يوسف يحدث أباه يعقوب عليهما السلام عن رؤيا رآها في منامه (أحد عشر كوكبًا مع الشمس والقمر له ساجدين)، ويدرك الأب بفطنته، وبعلمه اللدُّني والمكتسب، ومن واقع خبرة وتجربة، وبصيرة ومعرفة أن تلك الرؤيا تنبئ عن خير عظيم، ومجدٍ كبير سوف يناله ابنه بفضل من الله سبحانه وتعالى عليه.

وإثر هذا الخبر، من المؤكد أن قلب الأب الحنون قد جاش بالفرح والابتهاج والسعادة، ولكنه أجَّلَ التعبير عن ذلك كله، من أجل أمر أولى وأهم، فقد رأى أن الأولوية القصوى في هذا الموقف تكمن في إسداء نصيحة مكتنزة حبًّا، وتوجيه ممتلئٍ شفقة؛ ينبعان من خبرة السنين، وغزارة العلم، وتجارِب الأيام، وفيض العاطفة المتدفقة من حنايا قلب شيخ تجاه فلذة كبده، ومهجة قلبه، ونور عينيه، ويقول له قبل أي شيء آخر- كما عبَّر القرآن الكريم: (قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا. إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ).

يا لجمال النصيحة، ويالروعة التوجيه عندما تأتي من مُحب صادقٍ صدوق، خَبَرَ الناس، وعرف طباعهم، وأدرك مواطن ضعفهم، وأثر الشيطان فيهم وعليهم!
يعقوب يخشى على ابنه الحسد، وسهام العيون التي قلّما ينجو منها أحد، والتي لا تفرق حين تصوب طاقتها السلبية، بين قريب أو بعيد! مثلها مثل رصاص طائش أُطلق عشوائيًّا وسط معسكر في هزيع الليل، وتحت جنح الظلام الدامس.

يا للعجب! إنه يخشى عليه حسد أخوته الذين هم أقرب الناس إليه بعد والديه! فما بالنا بحسد الآخرين؟.

ويا للغرابة أيضًا! يعقوب يخشى على يوسف مجرد إخبارهم بتلك الرؤيا، التي قد يحسنون تأويلها، وقد لا يحسنون، وهي أيضًا ما زالت غيبًا في علم الله؛ قد تقع – بأمره عز وجل – وقد لا تقع!
يعقوب عليه السلام ينصح ابنه بكتمان أمر هذه الرؤيا وغيرها عن إخوته! أليست الحكمة تكمن في (استعينوا على حوائجكم بالكتمان)!.

ما أحرانا اليوم وكل يوم أن نستحضر هذا المعنى، وما أحوجنا في كل زمان ومكان أن ندرك أبعاده وغاياته، وما أجملنا إن أفدنا منه، ووظفناه، واستثمرناه حق الاستثمار، لا ضير في ذلك، صغارًا كنا أم كبارًا، ذكورًا أم إناثًا، أثرياء أم مستوري الحال!

إن تلك النصيحة وذلك التوجيه يكتسبان أهميتهما ومصداقيتهما أولًا: من كونهما أتيا من رسول ونبي؛ أدَّبَه ربه بالوحي والهدية، وخصه بالرسالة والاصطفاء، ومنحه الرشد والسداد، وثانيًا: كونهما صادرين من شيخ فَطِن، صقلته الحياة، وأذاقه تتابع الأيام، وتصرم الليالي، عبرًا ودروسًا، فترقى في سلم الحكمة رقيًّا عظيمًا، ومن يؤتَ الحكمة، فقد أوتيَ خيرًا عظيمًا.

والأهم من هذا وذاك كله أن الله عزَّ وجل أثنى ضمنًا على تلك النصيحة، وذلك التوجيه عندما ذكرهما المولى على لسان سيدنا يعقوب في كتابه الخاتم؛ الصالح لكل زمان ومكان (القرآن الكريم)، دونما توجيه أي نقد لهما.
وأظن – والله أعلم – أن بقاءهما قرآنا يتلى حتى تقوم الساعة، دلالة يقينية على الصلاحية غير المنتهية، والديمومة غير المُنْبَتَّةِ لمضمونهما النبيل حتى تقوم الساعة.

ولا ينبغي أن نغفل في هذا السياق كونهما جاءا في سورة كريمة عُدَّت قصتها – قصة سيدنا يوسف عليه السلام – من أحسن القصص، وقصص القرآن ليست فنًّا لمجرد الفن، بل هو فن راقٍ يسمو على كل فن، غايته سعادة الإنسان في الدارين، وصلاح الأمم والمجتمعات.

(طـــه. ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى).

موقف آخر وتوجيه ثانٍ من سيدنا يعقوب يأتي في نفس السياق، ونحو تلك الغاية وهو طلبه من أبنائه أن لا يدخلوا من باب واحد بل من أبواب متفرقة، قال تعالى: (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ، وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُون).

وما ذلك – والله أعلم – إلا دفعًا بأمر الله – سبحانه وتعالى – للحسد لأن أبناؤه – عليه السلام – كانوا “عصبة” أي عددًا كثيرًا. وهو رأي قال به بعض المفسرين. وعَصَبَةُ الرجُل تعني في اللغة: بنوه وقَرابتُهُ لأَبيه، أَو قومُه الذين يتعصَّبون له، وينصرونه. فإخوة يوسف كانوا جماعة ذو عدد؛ أحد عشر رجلا، والله أعلم.

سيدنا يعقوب كان يعرف الناس جيدًا، ومنهم وفيهم من ينطبق عليه قول الله تعالى:
(أمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ على مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ، َفقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا)، ويعقوب نفسه من عَقِبِ إبراهيم عليه السلام، ولذا فهو لا ينطق من فراغ، ولا يتحدث عن وهم.

ولتجنب الحسد، والإصابة بالعين أسباب ينبغي الأخذ بها، دونما اعتماد عليها، فالتوكل والاتكال يكونان على الله سبحانه وتعالى، ولعل في قول سيدنا يعقوب نفسه: (وما أغني عنكم من الله من شيء) شاهد عدل على ذلك.

واليوم نلحظ الناس – إلا من رحم ربي – نسوا أو تناسوا ذلك التوجيه الرباني العظيم، وهتكوا أستار بيوتهم، وعرُّوا محتويات منازلهم، وأبرزوا للعيان ما لديهم من أموال ومقتنيات عبر نشر كل ذلك بمناسبة وغير مناسبة في حساباتهم على الــــ (سناب شات)!
الأمر الذي دفع بأحد الساخرين للتساؤل: (هل ثمة حاجة لأن نسكن البيوت بعد أن كشفنا للقريب والبعيد كل محتوياتها؟).

لقد غفل أولئك الــ (مسنبون) – إن صح الاشتقاق – أن من بين متابعيهم ومشاهدي (سناباتهم) المريض والفقير، المحروم والمعدم، البائس والعقيم، ناهيك عن الناقم والمبغض، الحاسد والكاره، وذو العين الشريرة، والنفس الخبيثة.

وقد يقول معترض إن تلك الـ (سنابات) تأتي في سياق التحدث بالنعمة الذي أُمِرْنَا به، ودُعِيْنَا إليه، غير أن ذلك تأويل أحسبه خاطئًا، فثمة فرق بين تحدث بنعمة مرئية ومشاهدة دونما إيغار صدر، أو جرح مشاعر، وبين مباهاة مقيتة، وتباهٍ مذموم يجلب على صاحبه الضر والأذى.
التحدث بالنعمة المحمود هدفه حمد الله وشكره عليها، وغايته العرفان والإقرار بأنه وحده المنعم والمتفضل والكريم، وهذا من لب التوحيد، وقوة الإيمان، وهو مدعاة لبقاء النعم، وزيادتها: (لإن شكرتم لأزيدنكم)، وهو الأمر الذي قلما يكون في كثير من الـــ (سنابات).
يقول المثل الشعبي: (العين اللي ما تشتهي كذابة)!
ولو لم يكن الحسد شرًّا مستطيرًا، وأمرًا خطيرًا ، لما وجهنا الله تعالى للاستعاذة منه في قوله تعالى: (ومن شر حاسد إذا حسد)!.

والقرآن الكريم حافل بذم الحسد، والتحذير منه، والسنة النبوية فعلية وقولية عامرة بذلك أيضًا.

وأختتم مقالي هذا بتذكير نفسي وإياكم قرائي الأعزاء بقوله عليه الصلاة والسلام: (العين تُدخِل الرجل القبر، وتُدخل الجمل القدر).

دمتم جميعًا، وكل من تحبون ويحبونكم، بخير وعافية، ووعي وتوفيق.

☘️??☘️??☘️??☘️??☘️??

بقلم الأديب العربي/ خلف بن سرحان القرشي 

مقالات ذات صلة

‫35 تعليقات

  1. ما شاء الله لا قوة الا بالله اكثر من رائع
    تفيض علما ورقيا ما احوجنا لهذه المقالات
    بارك الله فيكم ودام ابداعكم
    والشكر موضول لصحيفتنا هتون

  2. تتواصل سعادتي باشتيار الأديب المتميز خلف القرشي الذي أراهن أن اشتيار ستكون مستقبلا إن صح التعبير ( مخطوطة) توثيق للربط بين كينونة الإنسان وما يحيط به من ملابسات الحياة وما اكتنف العصر من أحداث يتعاطى معها الأستاذ القرشي بطريقة غير مألوفة وبنوع من الأسلوب الغير تقليدي فهو لا يتخذ في كتاباته الحشو أو المفردات الصعبة أو أن ينحو نحو الجمل المكررة فكل جملة أو فقرة ذات عبارات وضعت في مكانها، فكما نرى اليوم أنه انتقل من التقديم السهل الممتنع الى شواهد ودلالات عدة احتاجها التفسير والتأويل لفكرة المقال ثم بكل الأريحية نقلنا إلى حياتنا العصرية ومواقف الناس مع التقنية .. فجعلنا في الأخير كقراء نتفكر ونفكر ونشحذ الأذهان لعلاقة بين عصور متباينه …
    الرهان موجود أن أستاذنا القرشي بالإضافة الى أدبيته المعهودة فإنه سيكون مؤرخًا ما بين العصور وباحثًا في مجال القرآن الكريم لا يشق له غبار ..
    وسيستمر توالي الإبداع فسلمت أناملكم أديبنا وحفظ الله يراعكم لهتون .. ودمتم بود

  3. مقالة فيها اسقاط عميق ورفيع واسلوب متدرج؛ يجعلك تنهمك في قراءة المقال من أوله الى آخره، مليار شكرا.

  4. ابو فواز
    كعادتك ابا سعد متألق في اشتيارك للمواضيع والتي اثريتها باسلوبك المنفرد في الطرح والا ستشهاد وفقك الله والى الامام

  5. طرح متفرد ابا سعد
    واثراء راق ورصين لهذه التقاطعات الجادة لهدي القران الكريم مع واقع اليوم .
    واجزم أن هذا الموضوع جدا خطير ، فكم نرى يوميا من حالات الاصابة والمرض والحوادث والموت المفاجئ التي تعتري الكثير الكثير من الناس .

  6. بسم الله الرحمن الرحيم
    لم أقرأ المقال لموضوعه فأنا لا أستخدم السناب شات ولكن حبي لمضمون ما يطرحه أبا سعد فهو يطرح شيء مألوف لتخرج بشيء غير مألوف فنزداد زيادة وهذا ابداع لدى ابا سعد ولعل شهادتي في أباسعد مجروحه ولكن الموضوع في ظاهره لايهمني من قريب أو بعيد أما الكلمات التي ليست كل كلمات فهي (( أنني سأستخدم السناب شات ولعل هذا من ابداع ابا سعد يكتب موضوع فيؤثر بالاخرين ليستفيدوا من فوائد التقنية وهذا سينعكس على المجتمع وأيضا سيكون أمامي منجم من المعلومات الحقيقية عن واقع الاخرين وأيضا سيكون لدي الجواب المريح وهو نعم لمن يسألني دائما هل لديك سناب )) بالطبع هناك الكثير من الفوائد لهذا المقال بل هذا الدرس وهو قيمة مضافة . تحياتي للمبدع أبا سعد

  7. لقد اطلعت على مقالك هذا وتشكر على هذه اللفتات حيث ان الناس التفتت للتصوير وقد يعرضون أنفسهم للعين وشكرا.

  8. فعلاً وجدت مقاطع السناب تثير نوعاً من الحسد والبغض والكره .
    عندما تراقب سناب لشخص ما في مطعم أو فندق أو مكان سياحي
    أضف أن البعض يعرض قصته ليغيض آخرين… إلخ
    مقال يعرض مشكلة لا يريد أحد الاعتراف بها بل يريد الهروب من المواجهة .

  9. عندما تُعطى الإشارة .. وتنقدح الشرارة .. ويُطلَق للفكر العنان .. ويُقلع الخيال ويُحلّق الوجدان .. وترسمُ الكلمات أبهى لوحات البيان؛ عندها يكتب خلف بن سرحان! … لنكون على موعدٍ مع الإبداعِ والإمتاعِ والسعادةِ والإفادةِ في آن.

  10. صدق الله العظيم عندما قال :” ومن شر حاسد اذا حسد”..

    الحسد موجود ولابد من الحذر

  11. عندما يُقبِل عليك الأديب أخي الأريب خلف كاتبًا فإنه يأْتيك بإحساسه كله حضورًا فارهًا وأسلوبًا راقيًا وأدبًا بهيًّا ومفرداتٍ زاخرة ومحسِّناتٍ ذات لفتاتٍ زاهية وإحاطةٍ بجوانب الموضوع إحاطة السوار بالمعصم، يطير بجناحين محلِّقيَين بِنَا أحدهما حمل الإبداع والآخر رفع إلى علْيائه الروعة وجسَدٌ ضمّ الجمال واحتضنه، دمت ألقًا أنيقًا مقنعًا.

  12. اشتيار رائع، ومقاربة متميزة، سيدنا يوسف عليه السلام كاد له إخوته، رغم تحذير سيدنا يعقوب له..
    ونحن رغم كل ذلك نتسابق في التباهي بما نملك على وسائل التواصل الاجتماعي..

  13. اقتناصٌ جميل، وتذكيرٌ لطيف ..
    إذا كان النهي من الوالد لفلذة كبده عن رواية ماجاء في المنام فكيف بما نشهده اليوم من واقعٍ متكرر يبدو في أكثره عديم الفائدة، وليته يقف عند عدميته بل يزيد حسرة بعض النفوس على ماتظنه نقصًا في الرزق!

  14. موضوع رائع تناول أمر مهم جداً في حياتنا اليومية.
    أبدعت كاتبنا خلف القرشي، لكني تسألت كما يتساءل الكثير منا : وماذا بعد السناب؟
    بالتأكيد سيكون هناك الجديد فكفانا الله شر ما يجلب لنا الحسد والحقد والشر.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88