إسبوعية ومخصصة

الرشوة.. كابوس يؤرق الجميع

تندرج ظاهرة الرشوة ضمن طابور الأوبئة الذي ينخر المجتمعات، ويصيبه بشتى أنواع العجز الجسدي والنفسي، وتكمن خطورة الرشوة في كونها تمثل اعتداء على نزاهة الوظيفة العمومية التي يجب أن تتحلى بالأخلاقيات الكافية لضمان حصول جميع المواطنين على حقوقهم بالتساوي بعيدًا عن الابتزاز والمحسوبية والزبونية، لذلك شنّ عليها كلا من القانونين الوضعي والشرعي حملة شرسة من أجل التصدي لها، واعتبراها معًا جريمة توجب الجزاء والعقاب.

 

وبالرغم من العقوبات المفروضة على مثل هذه الجرائم إلا أنها لم تستطع الحد من تجاوزاتها التي للأسف باتت عرفا وكابوسا يؤرق الجميع، حتى بات المواطن يجد صعوبة كبيرة في إنجاز أي وثيقة أو معاملة إدارية دون دفع “المقابل”، ولا شك فإن قسما كبيرا من هذه التجاوزات يعود إلى انعدام آليات تفعيل النصوص القانونية التي  تفرض عقوبات على المتجاوزين بالإضافة إلى ضعف الانضباط  الإداري في الكثير من الإدارات الوطنية وخاصة منها تلك التي تستفحل فيها ظاهرة الرشوة مثل المستشفيات والمقاطعات..، فإن عملية التقويم الإداري تتطلب الكثير من التدابير والإجراءات التي من شأنها القضاء على هذه الحالات الميؤوس منها، ومن هذه الإجراءات تأهيل الموظف العمومي على اعتبار أنه الآمر الناهي وصاحب الصلاحيات المطلقة فيما يتعلق بالأعمال المنوطة به وهو لن يعدم الوسائل والطرق المشروعة والغير مشروعة للحصول على مبتغاه.

 

تجريم الرشوة

استأثرت ظاهرة الرشوة باهتمام المشرع المغربي، وتشهد بذلك مساحة النصوص التي يخصصها لها وهكذا فقد تصدى لها بالتجريم منذ صدور أول قانون جنائي سنة 1953 (المواد 180 إلى 188( ثم نص عليها قانون 26 نونبر 1962 (المواد 248 وما بعدها والتي تطبق إلى اليوم)، وقد نهج المشرع المغربي في تجريمه للرشوة نهج التشريعات التي تعتبر أن الرشوة تتكون من جريمتين مستقلتين هما جريمة المرتشي التي يرتكبها الموظف العمومي أو الرشوة السلبية كما يسميها الفرنسيون وجريمة الراشي أي صاحب الحاجة أي الرشوة الايجابية، فإذا كان الراشي يمهد لارتكاب الجريمة ويسهل اقترافها فإن المرتشي يضعها موضع التنفيذ
ثم إنه وأمام تسلل الرشوة إلى داخل المشروعات الخاصة وتمكنها من نفوس العمال والمستخدمين والموكلين بأجر، عمد المشرع الجنائي المغربي إلى تجريم الرشوة التي قد يرتكبها هؤلاء (المادة 249) من القانون الجنائي، وقد أحسن المشرع المغربي عندما تبنى مذهب ثنائية الرشوة، على اعتبار أن ذلك من شأنه تشديد العقاب على كل من المرتشي (المواد 248، 249)، والراشي المادة 251 من القانون الجنائي على حد سواء ثم إنه يسمح باستقلال الجريمتين في المسؤولية والعقاب إذ يتصور وقوع إحدى الجريمتين دون الأخرى، ومن نتائج ذلك إمكانية متابعة الراشي عن جريمة عرض الرشوة التي قد يرفضها الموظف العمومي والعكس صحيح، إذ من الممكن مساءلة هذا الأخير لطلبه الرشوة مثلا حتى ولو رفض صاحب الحاجة الاستجابة لطلبه وهاتان نتيجتان ما كان يمكن الوصول إليهما في ظل الأخذ بمذهب وحدة الرشوة .

 

بين الراشي والمرتشي

والرشوة داء خطير يفتك بالمجتمعات ويلوث الشرف وينزع المهابة ويتنافى مع السلوك الإنساني، ولذلك تصدى لها الإسلام ووقف أمام تناميها واستفحالها داخل المجتمع، خاصة وأن هذا الداء انتشر في مجتمعات هذا العصر بشكل عام في معظم الأجهزة والمؤسسات، وخاصة تلك التي تتعامل بصورة مباشرة، ودائمة مع المواطنين.

ثم إن الرشوة بالإضافة إلى ذلك، ظاهرة إجرامية خطيرة، مقتتها كل الشرائع الإلهية وجل التشريعات البشرية الوضعية، بسبب كونها تشكل عائقًا حقيقيًا ضد كل مبادرة ترمي إلى الدفع بالمجتمع نحو الرقي الاقتصادي والاجتماعي والحضاري، فهي تقف سدًا حاجزًا يعيق الاستثمارات، وتفرغ مصطلح دولة الحق والقانون من كل محتوى له، وتكرس واقع الظلم والغبن الاجتماعيين.

ولذلك ذمتها الشريعة الإسلامية وتوعدت مرتكبيها ومن ذلك قول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (لعن رسول الله الراشي والمرتشي) رواه الترمذي وهو حديث حسن صحيح، وفي المسند وغيره بسند حسن عن ثوبان رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله الراشي والمرتشي والرائش)، وتأسيسًا على هذه الدلالات الصريحة ولما رواه الطبراني بسند جيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الراشي والمرتشي في النار)، قال أهل العلم كالذهبي وغيره: إن الرشوة كبيرة من كبائر الذنوب.

والرشوةُ أكلٌ للأموال بالباطل، وتناولٌ للسحت، يقول جل وعلا: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) سورة البقرة: الآية 881، ويُروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (بابان من السحت يأكلهما الناس: الرشا ومهر الزانية)، زد على ذلك أن الرشوة وباء خطير يمحق البركة كما يقول العلماء، بحيث أن من “يقع فيها إلا ومُحِقت منه البركة في صحته ووقته ورزقه، وفي الحديث (كل لحم نبت من سُحت فالنار أولى به) قيل: وما السحت؟ قال: (الرشوة في الحكم) رواه ابن جرير وغيره.

تخليق الحياة العامة

ويظل هاجس تخليق الحياة العامة يطرح نفسه على كل إدارة لمحاربة الرشوة والفساد سواء على المستوى المحلي أو الوطني، لهذا فإن أي تخليق للحياة العامة، يجب أن لا ينحصر في مجرد الاستجابة الآنية لظرفية معينة تسعى لترضيته، بل يجب أن تتضمن المطالب الحقيقية للمواطن، والتي لا يمكن تحقيقها في غياب تعميق الوعي بأهمية إقرار عنصري النزاهة والشفافية والعمل بها داخل المؤسسات الخاصة والعامة، ومن ثمة بات التخليق هو المدخل الرئيسي لإصلاح الشأن العام، ومرتكزا لكل المبادرات الإصلاحية، لأن مواطن الخلل التي تسكن دواليب الإدارة المغربية يمكن إرجاعها بالدرجة الأولى إلى أسباب أخلاقية صرفة، على اعتبار أن الأخلاق كما جاء في الرسالة الملكية السامية الموجهة للندوة الوطنية لدعم الأخلاقيات بالمرفق العام في أكتوبر 1999 هي “أساس من أسس الدولة تقوم بقيامها وتنهار بانهيارها”.

وفي هذا الإطار، يجب أن تأخذ المقاربة الإصلاحية بعين الاعتبار، جميع الفاعلين المعنيين بمحاربة الرشوة وبقضاياها، بالإضافة إلى الأخذ بعين الاعتبار الدروس المستقاة من التجربة المغربية في مجال مكافحة الرشوة، والتي لم يكتب لها الاستمرارية في السابق وذلك بسبب استجابتها لظرفية معينة اجتماعية أو اقتصادية مما يجعل حملات التطهير غالبًا تحيد عن هدفها الأساسي في استئصال الممارسات الضارة بالمجتمع، فأهداف تخليق الحياة العامة يجب أن تتبنى مقاربة أكثر شمولية تتوخى تعزيز مختلف الجهود واستنهاض مختلف الإمكانيات وذلك بهدف إقرار مبدأ سيادة الأخلاق كأساس لإنجاح كل مبادرة للإصلاح، والتي لا يمكن تحقيقها إلا بالعمل على تقوية المجهودات التحسيسية إلى جانب المجهودات الوقائية والوسائل الزجرية، على اعتبار أن للجانبين معا دورًا فعالا في تقويض الكثير من مظاهر الانحراف.

ومن تمة، أضحى من اللازم دعم وتثبيت الأخلاقيات في الحياة العامة اعتمادًا على مجموعة من الآليات، منها توجيه النظام التربوي العام للمجتمع لتعزيز شعور الناشئة بالمسؤولية المدنية وبحقوق المواطنة، وإدراج التربية على تخليق الحياة العامة ضمن المناهج التعليمية وتنظيم حملات تحسيسية في هذا المجال على المستوى المركزي والجهوي، والانفتاح على الفعاليات المجتمعية الناشطة في مجال تخليق الحياة العامة وإشراكهم في بلورة البرامج والآليات الكفيلة بالقضاء على مختلف السلوكات الغير السليمة.

بقلم الكاتب/ زياد القصابي

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. قال رسولنا الكريم ” الراشي والمرتشى فى النار “فالرشوه تجعل شخص ياخذ شيئا ليس من حقه وتحرمه من اخر وهذا فيه ظلم للبشر ربنا يكفينا شر الرشوه

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88