إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

شعائرنا روح أم جسد..؟!!

لعل النظرة التي ترى الإنسان جسمًا وروحًا هي النظرة السائدة في أغلب المجتمعات والثقافات ومهما اختلفت الأزمنة والأمكنة، ولعل هذه النظرة اعتقد في صحتها أغلب المسلمين أيضًا وأيدوها بحجج متنوعة بعضها تكرار من فلسفات قديمة وبعضها من إنتاجهم وإبداعهم، وقد كانت هذه النظرة الثنائية للإنسان هي الموجّهة لكل التصورات الأخرى التي بنت الثقافة والعلوم ووجهت السلوك والأخلاق، أي حددت طبيعة القيم الكلية قيم الحق والخير والجمال، ورغم أن القول بثنائية النفس والجسد يثير صعوبات نظرية يعسر حلها فإننا مع ذلك نسلّم بها لنحاول الاقتراب إلى فهم أعمق للحياة الإنسانية في مختلف مظاهرها وأبعادها.
في هذه الأيام يعيش المؤمنون شهر رمضان شهر الصيام الذي كتبه الله على الأمم السابقة أيضًا، وشهر القرآن الذي أنزله الله إلى العالمين لإكمال الدين (الإسلام) وإتمام نعم الله على الإنسان، أمران مهمان اجتمعا في رمضان الصيام والقرآن، ولنا أن نسأل ما هي الصلات الممكنة التي يمكن أن نعقدها بينهما، وما هو أثر هذا الاجتماع على حياة المؤمنين نظريًا وعمليًا؟
شهر رمضان شهر الصيام، قول لا يمكن لأحد من المؤمنين أن يعارضه، والصيام شعيرة من الشعائر التي أوجبها الله على عباده المؤمنين، شعيرة نسبها الله إلى نفسه ليجزي بها عباده الطائعين لأنه الأعلم بحقائق القلوب والأفعال والضمائر المتوجهة إلى الله طاعة وعبادة، ولو طلبنا من أي مؤمن أن يحدثنا عن الصيام ما هو لقال لنا هو انقطاع عن الأكل والشرب وسائر الشهوات من طلوع الشمس إلى غروبها طيلة أيام شهر رمضان. ولو سألناهم ما هي العبادة وهل هي عمل الروح أم عمل الجسم؟ فإن الإجابات السائدة تقول إن العبادة عمل روحي وقربى إلى الله الذي أوجب تلك العبادة، وإذا كانت عملًا روحيًا فعلًا، فماذا نقول عن توقف الطعام والشهوات يوم رمضان وعودتها ليلا مع الإفطار؟ أية علاقة بين إخضاع الجسم لهذا الأمر وحرمانه من تحقيق شهواته ورغباته، والعمل الروحي الذي تتصف به العبادات عمومًا؟ فهل الصيام ممارسة جسمانية أم ممارسة روحية؟ ألا ترانا نقضي الأيام ونحن نتساءل عن شروط صحة الصيام وأسباب بطلانه ومفطراتها؟ ألا ترى جل المسلمين يكثرون السؤال عن أمور عديدة جدًا متصلة بحياتهم؛ خوفًا من إفساد صيامهم، وهي أسئلة لا تتجاوز الأنشطة الجسمية للإنسان؟ فأين الروحي في كل هذا؟ فهل تحقيق الشروط الجسمية للصيام أمر كاف للقول بأننا حققنا حكمة الصيام ومارسنا الشعيرة كما أرادها الله؟ قد تبدو الأسئلة غريبة لأنها تبدو مشككة في نسبة العبادة إلى عمل الجسم وعمل الروح؟ وهي أسئلة لا توجه لشعيرة الصيام فقط وإنما تطلق على كل باب العبادات عندنا، أليست الصلاة هي الأخرى ممارسة جسمية يتعلمها المؤمن منذ طفولته أي يتعلم ممارستها وقواعدها وشروطها وأركانها وفروضها وسننها ومبطلاتها…الخ أي كل المعارف التي تعلمناها في كتب الفقه ونمارسها دوما ممارسة مادية تجعل الإمام يحكم بفساد صلاتنا مثلا إن فسدت بعض أركانها أو فساد صيامنا إن فسدت بعض أركانه أيضًا، ولو نظرنا إلى هذه الشروط لوجدناها جسمية خالصة كالركوع والسجود والقراءة في الصلاة والامتناع عن الأكل والشرب وإتيان الشهوات في نهار رمضان، فالحكم بصحة العبادة أو بفسادها حكم متعلق بممارسة جسمية خالصة، فأين الروحي في العبادات إذن؟ وهل العبادة عمل روحي فعلا أم هي ممارسة جسمانية لا صلة لها بالروحانيات؟
للنظر في هذا السؤال نحتاج إلى نظر عميق لواقعنا الفعلي، نحتاج إلى حسن ملاحظة واقعنا وقراءته وحسن تحليل ظواهره وتفسيرها، نحتاج إلى قوة ذهنية من جهة وإلى الصدق في ممارستها من جهة أخرى، مبدئيًا نحن أمة أعزنا الله بالإسلام، وهذه حقيقة لا يمكن الطعن فيها، إذا كانت هذه هي حقيقتنا فلم نعيش واقعا آخر، واقعا اجتمعت فيه عناصر الضعف جميعها نظريا وعمليا؟ لقد جعل الله الشعائر لحسن عبادته حتى نحسّن حياتنا ونبني عزتنا. وقد أحسنا فعلا ممارستها جسمانيا فحفظنا قواعدها ومارسناها وفق شروطها وتمسكنا بها واعتبرناها الدين نفسه. من أقامها أقام الدين ومن أهملها أهمل الدين. وها نحن أقمناها، فهل أقمنا الدين حقا وبنينا عزنا أم نحن ضعاف تكالبت علينا الأمم؟ هل الممارسة الجسمانية للعبادات ممارسة كافية للقول بأننا فعلا نعبد الله كما أراد، وهل فعلا بهذه الممارسة الجسمية حققنا مراد الله من وجود الإنسان واستخلافه؟ ألم نتعلم بأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والمسلمون جميعًا يصلّون، فهل الفحشاء غادرت بلادهم وهل المنكر غاب من حياتهم؟ وتعلمنا بأن العديد من الصائمين ليس لهم من صيامهم إلا الجوع والعطش، وكم من مصل ليس له من صلاته إلا القيام والقعود أي كم من عابد محافظ على الصلاة والصيام ليس له من عبادته هذه إلا الفعل الجسمي الخالص، وهذا يعني أن العبادات وإن كانت جسمية في ممارستها فهي ليست جسمية في حقيقتها، وأن العناية بشروط صحتها الجسمية غير كاف لتكون عبادة فعلية تربّي الإنسان وتجعله ربانيًا ولعلنا لما نجد المسلمين يبتعدون عن أساليب الغش في المعاملات ويحترمون السير في الطرقات، ولما تصير عبادة العلم والنظر في الآفاق والأنفس قائمة فعلا في كل الفضاءات، ولما تصير عبادة العمل والإنتاج وتحويل الطبيعة وصناعة عالم الإنسان أمرا واقعا فعلا، ولما نُعلي العقل ونكرم أهله، ولما يصير الصدق لساننا والإخلاص قلبنا ولما نكرّم أدمية الإنسان بقطع النظر عن العرق واللون والجنس والدين، ولما نعشق الحق ونطلبه، والخير ونفعله، والجمال ونتذوقه، لما نحقق هذا وغيره تتحول صلاتنا وصيامنا من حركات جسمانية صحيحة وخالية من كل معنى، ركوع وسجود وجوع وعطش، إلى منهج حياة يوثق العلاقة بين البشر ويوفر شروط كرامة الإنسان وعزته، ونكون وقتها خير أمة أخرجت للناس تؤمن بالحياة وتقدس الحي القيوم سبحانه وتعالى. نعلم عندها أن العبادات تربية للإنسان ليكون إنسانا خليفة قادرا على إعمار الأرض وحمل الأمانة التي عجزت السماوات على حملها. وها نحن في رمضان، في مدرسة الصيام، ليس صيام الجسم فقط وإنما تربية النفس لتكون نفسا قوية بالإرادة قادرة على تزكية النفس لتكون مستعدة فعلا لطلب العلم الحق والعمل به. ونعني بالعلم الحق، العلم الذي يحقق فعل الاستخلاف والإعمار. فالله فضّل العالمين على العابدين كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “فضلُ العَالِم على العَابِدِ كَفَضْلِي على أدْناكم”. 
=================

بقلم الدكتور / نورالدين  السافي 

مقالات ذات صلة

‫6 تعليقات

  1. الجسد بلا روح لا فائدة منه والعبادات هي روح الأجساد، ونحن في هذه الأيام تتلاحم أرواحنا وتتعانق بطول السجود والوقوف بين يدي رب العالمين

  2. ‏الخشوع في العبادة ( لب العبادة وروحها وعبادة بلا خشوع مثل الجسد بلاروح ومثل الشجرة بلاأوراق وثمارفهي أشبه بالخشبة الواقفة)

    ‏فكن من الخاشعين

  3. نحن في رمضان، في مدرسة الصيام، ليس صيام الجسم فقط وإنما تربية النفس لتكون نفسا قوية بالإرادة قادرة على تزكية النفس لتكون مستعدة فعلا لطلب العلم الحق والعمل به ..

    فعلا ?

  4. استاذي الكريم، ثنائية الجسد و الروح ثنائية عسيرة جدا و لكن قولك :” الا ترى جل المسلمين يكثرون السؤال عن أمور عديدة متصلة بحياتهم (…) و هي أسئلة لا تتجاوز الأنشطة الجسمية . و تتساءل ايضا: ” فأين الروحي في كل هذا”؟ انا اقول المغزى من هذه الأسئلة هو مغزى روحي بالأساس و يأتي المغزى الجسدي ليعانقه ليكونا ثنائية يستحيل الفصل بينهما.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88