إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

السؤال الأول.. الجزء الثاني : كيف يجب أن نُفكر ؟

 كيف يجب أن نفكر إذا أردنا أن نفكر؟ هذا السؤال هو أول الأسئلة التي يجب على كل مفكر أن يطرحه على نفسه قبل أن يقدم على عملية التفكير لأن من جهل أداة تفكيره كيف سيتأكد من صدق تفكيره وما سينتهي إليه؟
لا شك أن أغلب الناس يفكرون، فالتفكير طبيعة بشرية، إلا أنهم وهم يفعلون ذلك في تدبير شؤون حياتهم يستعملون عقولهم على نحو غير شخصي، أي إن الإنسان وهو يفكر ليس هو الذي يفكر، وإننا في ممارسة التفكير نكون أبعد ما يكون عن أنفسنا، إن الآخر يسكننا، إنه الآخر بكل تلويناته وأنماط وجوده.

إنه الواقع والمحيط والبيئة والعادة وغيرها من القوى التي تصنعنا وتسكن فينا وتوجه حياتنا، وبما أن التفكير يقوم على الأنا المفكرة الحرة والمريدة فإن وجود الأخرين فينا يجعل من الأنا أكبر غائب فينا ويجعل النحن أكثر الحاضرين والفاعلين والمؤثرين، لأجل هذا قيل إن الإنسان ابن بيئته وعاداته ومألوفة، ومع ذلك يدّعي كلّ مفكر فينا أنه على حق فيما يذهب إليه ويقوله، وفيما يستنتجه من أحكام وما يقوم به من أفعال، بل ويسمح لنفسه من إصدار أحكام على أفعال الآخرين ومواقفهم وآرائهم ويعتبر أن ما يقوله حق لا شك فيه، فيتخذ من نفسه معيارًا في النظر وفي الحكم.

إن هذا الأسلوب هو الغالب في جميع المجتمعات عموما وعند جميع الأفراد أيضًا، يعتقد جميعهم أنه صاحب التفكير والإرادة، والحال إنه غائب عن نفسه، ولا يعلم حتى كيف يشتغل دماغه لينتج تلك الأفكار والقيم والمواقف والاعتقادات، إن الإنسان رهين الأحكام المسبقة والنظام المعرفي الذي يسكنه والذي اكتسبه من أسرته ومدرسته، فلما يفكر في مسألة ما إنما يستعمل مبادئه التي أخذها من أسرته وقيمه التي تدرب عليها في بيئته والقواعد التي تعلمها من مدرسته، فهو في جميع الحالات يستعمل كل ما وُضع فيه زمان طفولته وتعلّمه ولم يُفكر لحظة في حقيقة ما وُضع في. لماذا وُضع في؟ وهل هو فعلا يمثل الحق الذي يجب أن أحمله والقيم التي يجب أن أخضع لها؟ قد يأتيه الجواب من أعماقه، إن الأمر بديهي وواضح وأن السؤال لا ضرورة له، لأن ما نحن عليه هو الحق الذي يجب أن يُتبع وأن ما سوانا خاطئ ضال.

لما تُحدثنا أنفسنا بهذه الطريقة تهدأ قليلا وتطمئن وتقول: الحمد لله أني وُجدت في هذا المكان المحفوف بكل الخيرات وأهمها الحق الذي يسكن في قلوب الجميع الذين يحيطون بنا، وبينما النفس تُقنع نفسها بهذا الحديث وإذ بشرارة السؤال تندلع من جديد، أليس كلّ واحد من البشر يقول هذا عن نفسه وعن غيره.
في كل لحظة من لحظات الزمان يولد بشر في كل نقطة في الأرض، وكل مولود فيها يجد نفسه بعد زمن يحمل لسانا ينطق به وفكرا يفكر به وقيما يعيش بها ومعتقدات يحملها وتوجه حياته، وكل واحد منهم يعتقد أنه محظوظ لأنه وُجد في تلك البيئة ويحمل ذلك اللسان وتلك الأفكار، ويرى الآخرين الذين يسكنون العالم في ضلال بعيد عن الحق الذي يحمله، بل وترى الكثيرين يكلّفون أنفسهم ليكونوا دعاة لأفكارهم وقيمهم ومعتقداتهم، فترى الجميع يخرج حاملًا الحق الذي يعتقد فيه ليهدي الناس إليها ويقنعهم بها.

ولو سألنا الواحد منهم لمَ كلفتَ نفسك بدعوة الناس إلى ما تؤمن به؟ لأجاب الجميع جوابًا واحدًا، لأني أحمل الحق، والفضيلة البشرية تقتضي أن نكون رسل حق للبشرية حتى نقيها من الضلال الذي تعيشه، ولو عمقنا السؤال قليلًا وكيف علمتَ أنك على الحق، والحال أن الجميع في العالم يرون أنفسهم على حق فيما يذهبون إليه وينطقون؟، هل فعلًا وأنت تفكر في مسائل الوجود والحياة كنتَ أنت الذي يفكر أم كان مجتمعك هو الذي يفكر فيك؟

أيّ حظ يحكم العالم حيث نرى كلّ شخص في بيئته يصبح حامل لواء بيئته ليعممه على البشرية جمعاء؟ هل لأني وُلدتُ في أرض معينة وفي زمان معين ومكان معين يعني أني صرتُ على حق؟ أم ان البحث على الحق لا علاقة له بمكان الميلاد وزمانه، ولا لسان البيئة وثقافتها؟ أليس العودة إلى السؤال الأول باتت ضرورية؟ كيف يجب أن أفكر إذا أردت أن أفكر؟ كيف أتخلص من الأخر الذي يسكنني، وكيف أتحرر منه حتى يصير عقلي وكياني قادرًا على التفكير الفعلي والحقيقي؟

حتى لا يقال في شأننا ما قاله القران الكريم: بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون.

================

صورة ذات صلةالكاتب والباحث الدكتور

نور الدين السافي

تونسي / حاليًا في

الإحساء بالسعودية

 

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. شكرأ أستاذنا الدكتور ، التفكير موجود بطبيعة الإنسان لكن استعمالنا للأدوات المختلفة في التفكير هي التي تجعل هناك تفاوت بين شخص ووآخر في عملية التفكير

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88