إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

بين الأدب وقلة الأدب

من الضروري للثقافات الواعية أن تراجع نفسها كل فترة زمنية ،لتنقى معطياتها الثقافية من الشوائب التي علقت بها عبر تطورها التاريخي ،وزحفها الجغرافي ،وغبار ما تراكم عليها من خلال تطورات المجتمع وآليات تحاورها مع الثقافات الأخرى ،ونظرتها إلى تراثها القديم ،وعلاقتها يحاضرها المتغير، وهذا ما لابد أن تفعله الثقافة العربية في كل جوانبها الإبداعية والفكرية والتاريخية والجغرافية
وحين نتحدث عن الأدب بشكل خاص, فإننا لا نقصد هنا بالأدب وقلة الأدب المعنى الأخلاقي لا من قريب ولا من بعيد ،إلا إذا أسلمتنا الألف إلى الياء فى التحليل المنطقي لرؤية المشهد الثقافي الأدبي العربي
ووصلنا إلى منطقة المستوى الأخلاقي فى الأدب وقلة الأدب
وأعنى بالأدب ذلك المعنى الشمولي للمعرفة الإنسانية الخاصة بالشعور والذوق والإبداع الإنساني، وما يفرزه من شعر وقصة ورواية ومسرح ونقد وفلسفة وغير ذلك ،وحين نوازن بين هذا المعنى وبين ما يحدث على الساحة العربية نجد فوضى عارمة فى التوصيف والتسمية وتوظيف المصطلحات، فالأديب – في تقديري- هو القادر على إبداع شمولي موسوعي فى كل الفنون ،معتمدا على خلفيات معرفية واسعة ،ومخزون ثقافي فى كل الفنون ،وهذا نوع نادر
فلم يكن “جان جاك روسو” ولا “فيكتور هوجو” ولا “شكسبير” ولا “موسييه” ولا “موبسان ” ولا”جاك دريدا” أديبا بل كان كل منهم قاصا أو شاعرا أو ناقدا، لأنه تخصص فى فن واستفاد من بقية الفنون، وكذلك لم يكن الحكيم أو نجيب محفوظ أو تيمور أو الجواهرى أو الفيتورى أو الشابى أديبا ،لكننا يمكن أن نقول إن طه حسن كان أديبا والعقاد كان أديبا لأنهما ومن شابههما استطاعوا أن يعتمدوا على مخزون معرفى وإنتاج أدبي يشيه طريقة النحل فى الجمع والتخزين والإنتاج واستطاعوا أن يفرزوا لنا إنتاجا متنوعا عميقا ومنهجيا معتمدا على قانون أن كل تراكم كمي منهجي يؤدى إلى تغير نوعى وتطور منهجى
والسؤال الآن : هل لدينا على الساحة العربية أدب أم إبداع؟ وهل لدينا أدباء أم مبدعون؟ وهل لدينا طه حسن والعقاد أم لدينا نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم؟ الحقيقة ليس لدينا شئ الآن ، وإني لأندهش كثيرا حين يصف أحدهم نفسه بالشاعر والناقد والقاص والمسرحى ، وأعجب كيف لشخص واحد أن يبدع كل هذا ويضفى على نفسه هذه الألقاب أو تلك الصفات؟
وبعيدا عن العواطف والتعصب فإني أكاد اجزم وباطمئنان أنه ليس لدينا الآن لا هذا أو ذاك وذلك لأن فوضى العروض الإبداعية وعدم الوعي باستخدام المصطلح أفرز لنا خلطا أضر كثيرا بالساحة الأدبية ووضعها على حافة الهاوية والتخلف وهذا – فى تقديري -راجع إلى عدة أسباب:
**عدم الوعى فى التعامل مع المعطيات الثقافية العصرية وغياب المنهج فى التأثر بثقافة الآخر الأجنبي
وهنا ترانا نملأ الساحة جعجة ولا ننتج طِحنا ،فيخرج علينا الشتات فى الفهم والوعي بأصول الإبداع وعلاقته بالخصائص العربية للثقافة والجذور الإبداعية، فاتسعت الهوة بين المنتج الإبداعي والمستهلك الذي غيبه إعلام متخلف تنخر المهنة التجارية والتوجيه السياسي فيه أشد من السوس إلا من رحم ربي
فلا إبداع موجه، ولا نقد علمى فلسفي يؤسس لإبداع جيد ،ولا توظيف جمالى للغة التى قتلتها الإعلام العربي جماليا ودلاليا ،ففسد الذوق الأدبي ،وغامت رؤى الإبداع ،وأصيبت اللغة فى مقتل، وهنا نقف على سر الانفصال شيه القطيعة بين الإبداع والمتلقى بشكل عام
والمدهش أنى كنت أمر فى احد شوارع القاهرة فوجدت محلا تجاريا كتب عليه “السلام شوبنج سنتر للمحجبات” واندهشت لهذه الازدواجية اللغوية العجيبة والتى هى نتاج ازدواجية فى الفكر الاجتماعى والثقافى ،إذ كيف تنسجم مفردة ذات خصيصة عربية مثل ” السلام” مع مفردة أجنبية مثل” شونبج” مع مفردة ذات طابعى إسلامي مثل “المحجبات” ؟،وهذا يجرنا إلى الحديث عن غياب المنهج فى التأثر بثقافة الآخر وهزيمة الثقافة العربية، فلقد دخلنا الحداثة وما بعد الحداثة ونحن لم نعِ معني الحداثة حتى الآن ،وأصبحنا ندافع عنها بلا وعى يقيم جسورا بينها وبين تراثنا ،وأصبحنا نستهلك الحداثة كما نستهلك علب الطعام ،وإنى لأعجب كيف نحدث الفكر قبل أن نحدث العقل؟ وكيف نحدث الفكر قبل أن نحدث المجتمع العميق؟ ولا يمكن أن يتقدم المجتمع القائم على ثقافة النخبة فقط ،هنا يصبح الأدب فى بعض الأحيان قلة أدب
*غياب الفصل بين من هو أديب ومن هو مبدع واختلاط السطحى بالعميق
*مع غياب المنهج والوعي فى التعامل من الأدب اختلطت الأمور وصرنا نواجه كل يوم الأديب اللامع والأديب السامق والشاعر والناقد والروائي والقاص والمسرحى فى آن واحد ،ولا أعرف كيف تجتمع هذه الصفات في شخص واحد ؟،وأية عبقرية تلك فى عصر ثقافة “التيكى واى” التى تفرز هذا الموسوعي في الأدب؟
وأظن أن عملية التسطيح وغياب المنهج في التعاطي الأدبي وقصور النقد الحقيقي وتراجع دوره بشكل مخيف هو ما سمح بظهور هذه النماذج إلا ما ندر منها ،وهى أصبحت وبالا على المشهد الثقافي والإبداعي والأدبي فى الساحة العربية، فلا يمكن أن يكون الشخص قاصا وروائيا وشاعرا وناقد ومسرحيا إلا أذا كان هو عبقر نفسه يأتي بالخوارق والمعجزات ،وربما الذي ساعد على هذا الفراغ الثقافي الذى نعيشه وسطحية الفكر وانقراض المفكرين الحقيقيين وكذلك فوضى تعاملنا مع العالم الافتراضي والشبكة العنقودية والجهل فى التعامل معها خلف لنا نماذج تطرح نفسها الآن بقوة على أنها ممثلة الإبداع الحقيقي وهى نماذج فى معظمها مسطحة وهشة تجهل الأدب وتدعى أنها قمة الأدب ولا تعرف الإبداع وتدعى أنها أكثر الناس إبداعا وعملية التسطيح امتدت أيضا لتلقى مثل هذه الأعمال على أنها قمم إبداعية وهى فى الحقيقة قمامات الإبداع الحقيقي وإذا استعرضنا المنتديات والفيس بوك نجد مخلفات الإبداع قد أفرزت لنا طبقة المدعين الجدد وليس المبدعين الجدد وهنا أيضا يتحول الأدب إلى قلة أدب وتتحول الساحة الإبداعية إلى مشهد معتم يحتاج إلى صبر وإلى استقراء وتنقية وهذا يقع على عاتق المثقفين الحقيقيين والمخلصين ولا يقع على عاتق المستشرقين المحليين

—————————–

عبد الحافظ بخيت متولي

 

مقالات ذات صلة

‫8 تعليقات

  1. فعلا نشاهد الكثير من الازدواجيات التي تخل بثقافتنا العربية لذلك يجب علينا التركيز في اعادة ثقافتنا العزبية الى الطريق الصحيح الذي يناسبها ويناسب الدين الاسلامي.

    وهذا الموضوع استحق الخروج الى النور ليقرأه كل عربي نسي الادب في الثقافة العربية.وشكرا للصحيفه لنشر مثل هذه المواضيع الملفته والمثيرة للأهتمام من النوع الكبير.

    Alhomani

  2. مقال رائع جدا أستاذ عبدالحفيظ متولي
    فعلا نحن في زمن نفقد فيه المعاني الحقيقة للأدب الثقافي والإجتماعي والتعاملي . ربما تسارع التكنولوجيا والتطور الذي نراه هنا وهناك هما السبب الرئيس في هذه المعضلة!
    وتغافل الكثير من الآباء والأمهات عن التربية الصحيحة لأبنائهم.

    فما هو الحل برأيكم ؟
    تقديري

  3. بداية شكراً لقلمك الذي تحدث عن واقع نعيش به
    شكراً لقلمك بل هو كان رسولا لذهنك.
    افتقدنا بل انا افتقد هذا الأدب حتى وان بحثت عنه لم تزرع تلك الثقافات في التعليم لم يتجه اليها الاعلام لصنع حلقات اعلاميه تواكب توجه الشعرب بالتقنيه
    اجابة لسؤال احد التعليقات مالحل
    لن نجد الاجابه الكافيه
    بل يحب علينا مشر الغلم وتيار الأدباء يتجه للتقنيه والالام الالكتروني والتعليم الواقع بجمدازسنا وجامعاتنا
    مواكبة التقنيه ونشر الأدب وزرع حبه في تلك التقنيه تيار جدا ربما يكون ناجح
    يجب ان نذهب لما هو حديث الواقع لتصل الرساله وتزرع الثقافه والعلم .
    شاكر لك
    وراقت لي جدا ً

  4. اذا استعرضنا المنتديات والفيس بوك نجد مخلفات الإبداع اي والله والان هالتخلف صار بالكتب احسنت في مقالك

  5. من أجمل ماقرأت فقد تناولت الأدب وماينطوي عليه من كتابات بين الايجاب والسلب
    واحسنت في اسلوبك من حيث المقارانات
    ولديك قدرة على مناقشات ومحاضرات تخص الأدب ونظرياته
    سلامي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88