إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

مدينة رخيمة الصوت

في الشمال حيث تنخفض درجات الحرارة، أقف دومًا أرنو نحو صحراء ورمال أصبحت تكسوها الثلوج فتكون بساطًا أبيض، ينشر على قلبي الصفاء، فأبوح بما في جوفي، وأهمس لنافذتي.

ها هي العصافير تتغذى في رذاذ متجمد، تنقر الحبوب والفتات المترطب الذي وضعته على نافذتي، وبعض من العصافير الصغرى تتحول إلى كرات ثلج، وتستمر زخات ذات تراكم متدرج غير مرئي من اللطخة الفضية إلى عشوائية، بيضاء وبطيئة. حاولت الخروج لهم والوقوف على حالهم لكن والدتي حالت بيني وبين ذلك .

ها هي لحظة أخرى أتت لم أستطع فيها أن أنبس ببنت شفة وعدت أدراجي .. والألم يعتصرني.

جلست أتأملهم .. حمدت الله حينها، طاروا بشكل واضح بدلًا من السقوط، وبقيت في غرفتي أقلب صفحات كتاب بين يدي، و ما زال غير قانوني قائمة من المنع المتكرر، والتحكم في إرادتي، كلما تعاطيت الأمور مع أمي.

جلست على سريري والغرفة تجعلني نصف فتاة مخبأة في خندق جاف وراء الشمس وفي بوهيمة الظلام. ونصف آخر يعايش حريق تحوطه حالة من السُّكْر كمن تناول خمرًا في قدح من معدن قديم يسقط في معدته فيسمع صوت الوجع والقرقرة المتوهجة جوعًا.

دخلت المطبخ لشرب كوب من الماء فوجدت تحت الطاولة حفنة من الشعير المسروقة من الكيس وتحت الخزانة حذاء قديم يتحرك ببطء، إنه الفأر الذي غرق في وسط ظلام المطبخ، لماذا لا أصادقه ما دمت في هذا البيت الموحش بطغيان الحدود والنواهي التي تغتال حلمي بالحرية ولو حرية بإبداء رأي، تمتمت بذلك وصممت على صنع شيء.  أخرجت (جبنة، وقطعة طماطم، وكسرة خبز)، وضعتهم تحت الخزانة قريبًا من الفأر، في مكان أستطيع رؤيته إذا خرج من الحذاء القديم لتناولها.

نظرت إليه  لم أستطع رؤيته؛ فالمكان كله ظلام ورغم أن النافذة من زجاج لكن الشمس متدثرة بشال من السحب، والقمر غائب، والنجوم لم تعد مشرقة فجلست القرفصاء أتأمله لعله يخرج ويتناول ما قدمته له من وجبة. تعبت من الانتظار لعله يخرج، وشعرت بوجع الجلوس على الأرض فقمت وجلست على كرسي بعيدًا عنه، السكون والصمت مخيم على المكان لكن بعد قليل سمعت صوت أسنانه تقرض كسرة الخبز، فنظرت فشاهدت شبحه يتمايل يمينًا ويسارًا، ابتسمت وشعرت بالفرح، وبدأ الأمل يتسرب لداخلي، فها هو الفأر الخائف تجاوب وأكل وجبتي
وغدًا سوف نكون أصدقاء.

فجأة عم النور المكان وإذ مع اكتساح النور لعيني سمعت صوت نهيز مرتفع وشاهدت جزءًا من ذيل الفأر يسقط أمامي، إنها والدتي حضرت ومعها عصا غليظة  وكانت تراقب صنيعي مع الفأر، فانقضت عليه لما شاهدته خرج وبدأ يتناول وجبتي.

وصرخت قائلة: كيف تسمحين لنفسك أن تقدمي لهذا الفأر القذر واللعين طعامًا؟! متى سوف ينصلح حالك؟!!

قمت ومشيت نحو باب المطبخ وحين كنت أتجاوزها شعرت بألم العصى الغليظة على ظهري، كتمت صرختي، وتحاملت على الألم، وصعدت الدرج بسرعة إلى أن وصلت غرفتي وارتميت في سريري، وغرقت مخدتي بالدموع .. وصوت الألم والدموع كنهيز الفأر المذعور.

بعد أيام وجدت نفسي أمشي بين الحقول حاملة حقيبتي متجهة نحو مدينة لا تنتصر للتعنيف، مدينة الكلام فيها بحروف لا يتم التلاعب بها، ولا تخضع للكثير من التهجية، ولا يوجد فيه علامات ترقيم، وفيها رخامة للصوت وهدوء النبرات، وسكون حنون.

قصة بقلم/ هتون الشمري 

مقالات ذات صلة

‫29 تعليقات

  1. همس واحساس فوقى العادة والوصف…وصف اخااااااذ حيث لا زيف ولا خداع ورياح كما النسمات تعلوها البسمات…حبا وبساطة وأصالة…كل الحب والتقدير والروعة

  2. قصة رائعة تناقش فكرة حرية الرأي وتحارب التعنيف ، قدمت لنا هتون في قالب سرد مشوق سدنا بهدوء وعذوبة مع شعورنا بألم الكاتبة وجميل إنسانيتها ، رغم الهزائم الذي لحقت بالبطلة إلا أن القاصة أضاءت لها نهاية الطريق بالذهاب لمدينة تتمتع بحرية التعبير وعدم الانتصار للتعنيف .
    أعجبتني جدا الصور الفنية في المقطع ( جلست على سرسري والغرفة تجعلني نصف فتاة مخبأة في خندقزجاء وراء الشمس وفي بوهيمة الظلام …. والقرقرة المتوهجة جوعا )
    أبدعت هتون في صياغة وكتابة قصة قصيرة رغم ما فيها من ألم ووجع قدر ما فيها من حنان ورقة ونبل وإنسانية وما فيها من ظلم وعنف وحجر على حرية الرأي بقدر ما فيها من من بحث عن العدالة وحرية الرأي والإنسانية وهذا الثنائيات المتضادة سر جمال القصة أضف لأسلوب الكاتلة العذب السلس الهادئ رغم كل معاناة البطلة إلا الكاتبة كانت متزنة في التعبير عنها وأضافت الصور الفنية البديعة والمفردات الجميلة رونقا وجمالا أخر على القصة .

  3. ادعت استاذتنا هتون الشمري في كتابتك لهذه القصة الشيقة الجميله التي تحكي التوق للحرية والخلاص والحياة الكريمة بقالب سردي ممتع..

  4. أحاسيس في قمة الروعة حين يتحدث الكاتب عن الطبيعة وجمالها فينال من جمالها جمالا فى كتاباته

  5. كلام من واقع الحياة اليومية والكثير يعيش مثل هذه اللحظات ولكن ما احد وصفها بهذا الجمال ممتاز أستاذة هتون إلى الأمام

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88